فصل: ذكر ما فتحه زيادة الله بن الأغلب من جزيرة صقلية وما كان فيها من الحروب إلى أن توفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ما فتحه زيادة الله بن الأغلب من جزيرة صقلية وما كان فيها من الحروب إلى أن توفي:

في سنة اثنتي عشرة ومائتين جهز زيادة الله جيشاً في البحر، وسيرهم إلى جزيرة صقلية، واستعمل عليهم أسد بن الفرات، قاضي القيروان، وهومن أصحاب مالك، وهومصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك؛ فلما وصلوا إليها ملكوا كثيراً منها.
وكان سبب إنفاذ الجيش أن ملك الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقاً اسمه قسطنطين سنة إحدى عشرة ومائتين، فلما وصل إليها استعمل على جيش الأسطول إنساناً رومياً اسمه فيمي، كان حازمأن شجاعأن فغزا إفريقية، وأخذ من سواحلها تجارأن ونهب، وبقي هناك مديدة.
ثم إن ملك الروم كتب إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي، مقدم الأسطول، وتعذيبه، فبلغ الخبر إلى فيمي، فأعلم أصحابه، فغضبوا له، وأعانوه على المخالفة، فسار في مراكبه إلى صقلية، واستولى على مدينة سرقوسة، فسار إليه قسطنطين فالتقوأن واقتتلوأن فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية، فسير إليه فيمي جيشأن فهرب منهم، فاخذ وقتل، وخوطب فيمي بالملك، واستعمل على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بالطه، فخالف على فيمي، وعصى، واتفق هووابن عم له اسمه ميخائيل، وهووالي مدينة بلرم،وجمعا عسكراً كثيرأن فقاتلا فيمي، وانهزم، فاستولى بلاطه على مدينة سرقوسة.
وركب فيمي ومن معه في مراكبهم إلى إفريقية، وأرسل إلى الأمير زيادة الله يستنجده، ويعده بملك جزيرة صقلية، فسير معه جيشاً في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين، فوصلوا إلى مدينة مارز من صقلية، فساروا إلى بلاطه الذي قاتل فيمي، فلقيهم جمع الروم، فانهزمت الروم، وغمن المسلمون أموالهم ودوابهم، وهرب بلاطه إلى قلورية، فقتل لها.
واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ووصلوا إلى قلعة تعرف بقلعة الكراث وقد اجتمع إليها خلق كثير، فخدعوا القاضي أسد بن الفرات أمير المسلمين، وذلوا له، فلما رآهم فيمي مال إليهم، وراسلهم أن يثبتوأن ويحفظوا بلدهم، فبذلوا لأسد الجزية، وسألوه أن لا يقرب منهم، فأجابهم إلى ذلك، وتأخر عنهم أيامأن فاستعدوا للحصار، ودفعوا إليهم ما يحتاجون إليه، فامتنعوا عليه، وناصبهم الحرب، وبث السرايا في كل ناحية، فغمنوا شيئاً كثيرأن وافتتحوا عمراناً كثيراً حول سرقوسة، وحاصروا سرقوسة براً وبحرأن ولحقته الأمداد من إفريقية، فسار إليهم والي بلرم في عساكر كثيرة، فخندق المسلمون عليهم، وحفروا خارج الخندق حفراً كثيرة، فحمل الروم عليهم، فسقط في تلك الحفر كثير منهم، فقتلوا.
ز ضيق المسلمون على سرقوسة، فوصل أسطول من القسطنطينية فيه جمع كثير، وكان قد حل بالمسلمين وباء شديد سنة ثلاث عشرة ومائتين، هلك فيه كثير منهم، وهلك فيه أميرهم أسد بن الفرات، وولي الأمر على المسلمين بعده محمد بن أبي الجواري، فلما رأى المسلمون شدة الوباء ووصول الروم، تحملوا في مراكبهم ليسيروأن فوقف الروم في مراكبهم على باب المرسي، فمنعوا المسلمين من الخروج.
فلما رأى المسلمون ذلك أحرقوا مراكبهم، وعادوأن ورحلوا إلى مدينة ميناو، فحصروها ثلاثة أيام، وتسموا الحصن، فسار طائفة منهم إلى حصن جرجنت، فقاتلوا أهله، وملكوه، وسكنوا فيه، واشتدت نفوس المسلمين بهذا الفتح وفرحوا.
ثم ساروا إلى مدينة قصريانة ومعهم فيمي، فخرج أهلها إليه، فقبلوا الأرض بين يديه، وأجابوا إلى أن يملكوه عليهم، وخدعوه، ثم قتلوه.
ووصل جيش كثير من القسطنطينية مدداً لمن في الجزيرة، فتصافوا هم والمسلمون، فانهزم الروم، وقتل منهم خلق كثير، ودخل من سلم قصريانة، وتوفي محمد بن أبي الجواري أمير المسلمين، وولي بعده زهير ابن غوث.
ثن إن سرية المسلمين سارت للغنيمة، فخرج عليها طائفة من الروم، فاقتتلوأن وانهزم المسلمون، وعادوا من الغد، ومعهم جمع العسكر، فخرج إليهم الروم، وقد اجتمعوا وحشدوأن وتصافوا مرة ثاينة، فانهزم المسلمون أيضأن وقتل منهم نحوألف قتيل، وعادوا إلى معسكرهم، وخندقوا عليهم، فحصرهم الروم، ودام القتال بينهم، فضاقت الأقوات على المسلمين، فعزموا على بيات الروم، فعلموا بهم، ففارقوا الخيم، وكانوا بالقرب منهأن فلما خرج المسلمون لم يروا أحداً.
وأقبل عليهم الروم من كل ناحية، فأكثروا القتل فيهم، وانهزم الباقون، فدخلوا ميناو، ودام الحصار عليهم، حتى أكلوا الدواب والكلاب.
فلما سمع من مدينة جرجنت من المسلمين ما هم عليه هدموا المدينة، وساروا إلى مازر، ولم يقدروا على نصرة إخوانهم، ودام الحال كذلك إلى أن دخلت سنة أربع عشرة ومائتين، وقد اشرف المسلمون على الهلاك، وإذ قد أقبل أسطول كثير من الأندلس، خرجوا غزاة، ووصل في ذلك الوقت مراكب كثيرة من إفريقية مدداً للمسلمين، فبلغت عدة الجميع ثلاثمائة مركب، فنزلوا إلى الجزيرة، فانهزم الروم عن حصار المسلمين، وفرج الله عنهم، وسار المسلمون إلى مدينة بلرم، فحصروهأن وضيقوا على من بهأن فطلب صاحبها الأمان لنفسه ولأهله ولماله، فأجيب إلى ذلك، وسار في البحر إلى بلاد الروم.
ودخل المسلمون البلد في رجب سنة ست عشرة ومائتين، فلم يروا فيه إلا أقل من ثلاثة آلاف إنسان، وكان فيه، لما حصروه، سبعون ألفأن وماتوا كلهم؛ وجرى بين المسلمين: أهل إفريقية، وأهل الأندلس، خلف ونزاع، ثم اتفقوأن وبقي المسلمون إلى سنة تسع عشرة ومائتين، وسار المسلمون إلى مدينة قصريانة، فخرج من فيها من الروم، فاقتتلوا أشد قتال، ففتح اله على المسلمين وانهزم الروم إلى معسكرهم؛ ثم رجعوا في الربيع، فقاتلوهم، فنصر المسلمون أيضأن ثم ساروا سنة عشرين ومائتين وأميرهم محمد بن عبد الله إلى قصريانة، فقاتلهم الروم، فانهزموأن وأسرت امرأة لبطريقهم وابنه، وغمنوا ما كان في عسكرهم وعادوا إلى بلرم.
ثم سير محمد بن عبد الله عسكراً إلى ناحية طبرمين، عليهم محمد بن سالم، فغمن غنائم كثيرة، ثم عدا عليه بعض عسكره، فقتلوه، ولحقوا بالروم، فأرسل زيادة الله من إفريقية الفضل بن يعقوب عوضاً منه، فسار في سرية إلى ناحية سرقوسة، فأصابوا غنائم كثيرة وعادوا؛ ثم سارت سرية كبيرة، فغمنت وعادت، فعرض لهم البطريق ملك الروم بصقلية، وجمع كثير، فتحصنوا من الروم في أرض وعر، وشجر كثيف، فلم يتمكن من قتالهم، وواقفهم إلى العصر، فلما رأى أنهم لا يقاتلونهم عاد عنهم، فتفرق أصحابه وتركوا التعبئة.
فلما رأى المسلمون ذلك حملوا عليهم حملة صادقة، فانهزم الروم وطعن البطريق، وجرح عدة جراحات، وسقط عن فرسه، فأتاه حماة أصحابه، واستنقذوه جريحأن وحملوه، وغمن المسلمون ما معهم من سلاح ومتاع ودواب فكانت وقعة عظيمة.
وسير زيادة الله من إفريقية إلى صقلية أبا الأغلب إبراهيم بن عبد الله أميراً عليهأن فخرج إليهأن فوصل إليها منتصف رمضان، فبعث أسطولأن فلقوا جمعاً للروم في أسطول، فغمن المسلمون ما فيه، فضرب أبوالأغلب رقاب كل من فيه. وبعث أسطولاً آخر إلى قوصرة، فظفر بحراقة فيها رجال من الروم، ورجل متنصر من أهل إفريقية، فأتى بهم فضرب رقابهم. وسارت سرية أخرى إلى جيل النار والحصون التي في تلك الناحية، فأحرقوا الزرع وغمنوا وأكثروا القتل.
ثم سير أبوالأغلب سنة إحدى وعشرين ومائتين سرية إلى جبل النار أيضأن فغمنوا غنائم عظيمة، حتى بيع الرقيق بأبخس الأثمان، وعادوا سالمين، وفيها جهز أسطولأن فساروا نحوالجزائر، فغمنوا غنائم عظيمة، وفتحوا مدناً ومعاقل، وعادوا سالمين، وفيها سير أبوالأغلب أيضاً سرية إلى قسطلياسة فغمنوا وسبوأن ولقيهم العدو، فكانت بينهم حرب استظهر فيها الروم، وسير سرية إلى مدينة قصريانة، فخرج إليهم العدو، فاقتتلوأن فانهزم المسلمون، وأصيب منهم جماعة.
ثم كانت وقعة أخرى بين الروم والمسلمين، فانهزم الروم، وغمن المسلمون منهم تسعة مراكب كبار برجالها وشلندس، فلما جاء الشتاء وأظلم الليل رأى رجل من المسلمين غرة من أهل قصريانة، فقرب منه، ورأى طريقأن فدخل منه، ولم يعلم به أحد، ثم انصرف إلى العسكر، فأخبرهم فجاؤوا معه، فدخلوا من ذلك الموضع وكبروأن وملكوا ربضه، وتحصن المشركون منهم بحصنة، فطلبوا الأمان فأمنوهم، وغمن المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إلى بلرم.
وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وصل كثير من الروم في البحر إلى صقلية، وكان المسلمون يحاصرون جفلوذى، وقد طال حصارهأن فلما وصل الروم رحل المسلمون عنهأن وجرى بينهم وبين الروم الواصلين حروب كثيرة، ثم وصل الخبر بوفاة زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، فوهن المسلمون ثم تشجعوات، وضبطوا أنفسهم.
سرقوسة بسين مفتوحة وقاف وواووسين ثانية، وبلرم بفتح الباء الموحدة واللام وتسكين الراء وبعدها ميم، وميناوبميم وياء تحتها نقطتان ونون وبعد الألف واو، وجرجنت بجيم وراء وجيم ثانية مفتوحة ونون وتاء فوقها نقطتان، وقصريانة بالقاف والصاد المهملة والراء والياء تحتها نقطتان وبعد الألف نون مشددة وهاء.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا. وفيها أصاب أهل خراسان وأصبهان والري مجاعة شديدة، وكثر الموت فيهم؛ وحج بالناس هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.

.حوادث سنة اثنتين ومائتين:

.ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي:

في هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة، ولقبوه المبارك، وكانت بيعته أول يوم من المحرم، وقيل خامسه، وخلعوا المأمون، وبايعه سائر بني هاشم، فكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك، فكان الذي سعى في هذا الأمر السندي، وصالح صاحب المصلى، ونصير الوصيف، وغيرهم، غضباً على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس، ولتركه لباس آبائه من السواد.
فلما فرغ من البيعة وعد الجند رزق ستة أشهر، ودافعهم بهأن فشغبوا عليه، فأعطاهم لكل رجل مائتي درهم، وكتب لبعضهم إلى السواد بقية مالهم حنطة وشعيرأن فخرجوا في قبضهأن فانتهبوا الجميع، وأخذوا نصيب السلطان وأهل السواد، واستولى إبراهيم على الكوفة والسواد جميعه، وعسكر بالمدائن، واستعمل على الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهادي وعلى الجانب الشرقي منها إسحاق بن موسى الهادي.
وخرج عليه مهي بن علوان الحروري، وغلب على طساسيج نهر بوق والراذانين، فوجه إليه إبراهيم أبا إسحاق بن الرشيد، وهوالمعتصم، في جماعة من القواد، فلقوه، فاقتتلوا، فطعن رجل من أصحابه ابن الرشيد، فحامى عنه غلام تركي يقال له: اشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.
وقيل كان خروج مهدي سنة ثالث ومائتين.

.ذكر استيلاء إبراهيم على قصر ابن هبيرة:

وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملاً للحسن بن سهل، ومعه من القواد سعيد بن الساجور، وأبوالبط، وغسان بن أبي الفرج، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي وغيرهم، فكاتبوا إبراهيم على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة، وكانوا قد تحرفوا عن حميد، وكتبوا إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميداً يكاتب إبراهيم، وكان حميد يكتب فيهم بمثل ذلك، فكتب الحسن إلى حميد يستدعيه إليه، فلم يفعل، خاف أن يسير إليه، فيأخذ هؤلاء القواد ماله وعسكره، ويسلمونه إلى إبراهيم، فلما ألح الحسن عليه بالكتب سار إليه في ربيع الآخر، وكتب أولئك القواد إلى إبراهيم لينفذ إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فوجهه إليهم، فانهبوا ما في عسكر حميد فكان مما أخذوا له مائة بدرة، وأخذ ابن حميد جواري أبيه، وسار إليه وهوبعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر، وتسلمه لعشر خلون من ربيع الآخر، فقال حميد للحسن: ألم أعلمك؟ لكنك خدعت.
وعاد إلى الكوفة،فاخذ أمواله، واستعمل عليها العباس بن مسوى بن جعفر العلوي، وأمره أن يدعولأخيه علي بن موسى بعد المأمون، وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك وأنا معك.
فلما كان الليل خرج حميد إلى الحسن، وكان الحسن قد وجه حكيماً الحارثي إلى النيل، فسار إليه عيسى بن محمد، فاقتتلوأن فانهزم حكيم، فدخل عيسى النيل، ووجه إبراهيم إلى الكوفة سعيدأن وأبا البط، لقتال العباس بن موسى، وكان العباس قد دعا أهل الكوفة، فأجابه بعضهم.
وأما الغلاة من الشيعة فإنهم قالوا: إن كنت تدعونا لأخيك وحده، فنحن معك، وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه؛ فقال: إمنا أدعوللمأمون، وبعده لأخي، فقعدوا عنه.
فلما أتاه سعيد وأبوالبط ونزلوا قرية شاهي بعث إليهم العباس ابن عمه علي بن محمد بن جعفر، وهوابن الذي بويع له بمكة، وبعث معهم جماعة منهم أخوأبي السرايأن فاقتتلوا ساعة، فانهزم علي بن محمد العلوي وأهل الكوفة، ونزل سعيد وأصحابه الحيرة، وكان ذلك ثاني جمادى الأولى؛ ثم تقدموأن فقاتلوا أهل الكوفة، وخرج إلى شيعة بني العباس ومواليهم، فاقتتلوا إلى الليل، وكان شعارهم: يا أبا إبراهيم، يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد، وعلى أهل الكوفة الخضرة.
فلما كان الغد اقتتلوأن وكان كل فريق منهم إذا غلب على شيء أحرقه ونهبه؛ فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة خرجوا إلى سعيد فسألوه الأمان للعباس وأصحابه، فأمنهم على أ ن يخرجوا من الكوفة، فأجابوه إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه ذلك، فقبل منهم، وتحول عن داره، فشغب أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد، وقاتلوهم، فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق، ونهب أصحاب العباس دور عيسى بن موسى، وأحرقوأن وقتلوا من ظفروا به.
فأرسل العباسيون إلى سعيد، وهوبالحيرة، يخبرونه أن العباس بن موسى قد رجع عن الأمان، فركب سعيد وأصحابه، وأتوا الكوفة عتمة، فقتلوا من ظفروا به ممن انتهب، وأحرقوا ما معهم من النهب، فمكثوا عامة الليل، فخرج إليهم رؤساء الكوفة، فأعلموهم أن هذا فعل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن الأمان، فانصرفوا عنهم.
فلما كان الغد دخلها سعيد وأبوالبط، ونادوا بالأمان، ولم يعرضوا إلى أحد، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، ثم عزلوه لميله إلى أهل بلده؛ واستعملوا مكانه غسان بن أبي الفرج، ثم عزلوه بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايأن واستعملوا الهول ابن أخي سعيد، فلم يول عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد فهرب الهول.
وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي، ونعيم بن حازم أن يسرا جميعأن ولحق بهما سعيد، وأبوالبط، والإفريقي، وعسكروا جميعاً بالصيادة، قرب واسط، عليهم جميعاً عيسى بن محمد، فكانوا يركبون، ويأتون عسكر الحسن بواسط، فلا يخرج إليهم منهم أحد، وهم متحصنون بالمدينة.
ثم إن الحسن أمر أصحابه بالخروج إليهم، فخرجوا إليهم لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الظهر، وانهزم عيسى وأصحابه، حتى بلغوا طرنايا والنيل، وغمنوا عسكر عيسى وما فيه.

.ذكر الظفر بسهل بن سلامة:

وفي هد السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع، فحبسه، وعاقبه.
وكان سبب ظفره به أن سهلاً كان مقيماً ببغداد يدعوإلى الأمر المعروف والنهي عن المنكر، فاجتمع إليه أهل بغداد، فلما انهزم عيسى أقبل هوومن معه نحوسهل بن سلامة، لأنه كان يذكرهم بأقبح أعمالهم، ويسميهم الفساق، فقاتلوه أيامأن حتى صاروا إلى الدروب، وأعطوا أصحابه الدراهم الكثيرة، حتى تنحوا عن الدروب، فأجابوا إلى ذلك.
فلما كان السبت لخمس بقين من شعبان، قصدوه من كل وجه، وخذله أهل الدروب لأجل الدراهم التي أخذوهأن حتى وصل عيسى وأصحابه إلى منزل سهل، فاختفى منه، واختلط بالنظارة، فلم يروه في منزله، فجعلوا عليه العيون، فلما كان الليل أخذوه، وأتوا به إسحاق بن الهادي، فكلمه، فقال: إمنا كانت دعوتي عباسية، وإمنا كنت أدعوإلى العمل بالكتاب والسنة، وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة؛ فقالوا له: اخرج إلى الناس فقل لهم إن ما كنت أدعوكم إليه باطل، فخرج فقال: أيها الناس! قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة: فضربوه، وقيدوه، وشتموه، وسيروه إلى إبراهيم بن المهدي بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه به إسحاق بن الهادي، فضربه، وحبسه، وأظهر أنه قتل خوفاً من الناس، لئلا يعلموا مكانه فيخرجوه، وكان ما بين خروجه وقبضة اثنا عشر شهراً.

.ذكر مسير المأمون إلى العراق وقتل ذي الرياستين:

وفي هذه السنة سار المأمون من مروإلى العراق، واستخلف على خراسان غسان بن عبادة.
وكان سبب مسيره أن علي بن موسى الرضي أخبر المأمون بما الناس فيه من الفتنة والقتال، مذ قتل الأمين، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من أخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء وأنهم يقولون: مسحور، مجنون، وأنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.
فقال له المأمون: لم يبايعوه بالخلافة، وإمنا صيروه أميراً يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه، وأن الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وإبراهيم، والناس ينقمون عليك مكانه، ومكان أخيه الفضل، ومكاني، ومكان بيعتك لي من بعدك.
فقال: ومن يعلم هذا؟ قال: يحيى بن معاذ، وعبد العزيز بن عمران وغيرهما من وجوه العسكر؛ فأمر بإدخالهم، فدخلوأن فسألهم عما اخبره به علي بن موسى، ولم يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل أن لا يعرض إليهم.
فضمن لهم ذلك، وكتب لهم خطه به، فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي، وأن أهل بغداد قد سموه الخليفة السني وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان علي بن موسى منه، وأعلموه بما فيه الناس، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إمنا جاءه لينصحه، فقتله الفضل، وإن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة من يده، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما يعلمه، فأخرج من الأمر كله، وجعل في زاوية من الأرض بالرقة لا يستعان به في شيء، حتى ضعف أمره، وشغب عليه جنده، وأنه لوكان ببغداد لضبط الملك، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارهأن وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد، فإن أهلها لورأوك لأطاعوك.
فلما تحقق ذلك أمر بالرحيل، فعلم الفضل بالحال، فبغتهم، حتى ضرب بعضهم، وحبس بعضهم، ونتف لحى بعضهم، فقال علي بن موسى للمأمون في أمرهم، فقال: أنا أدراي، ثم ارتحل، فلما أتى سرخس وثب قوم بالفضل بن سهل، فقتلوه في الحمام، وكان قتله لليلتين خلتا من شعيان، وكان الذين قتلوه أربعة نفر أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وكان عمره ستين سنة، وهربوا فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت رقابهم.
وقيل إن المأمون لما سألهم، فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد ابن أخت الفضل بن سهل وضعهم عليه؛ ومنهم من أنكر ذلك فقتلهم؛ ثم أحضر عبد العزيز ين عمران، وعلياً وموسى، وخلقأن فسألهم، فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل منهم، وقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن ين سهل، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه، فوصله الخبر في رمضان.
ورحل المأمون إلى العراق، فكان إبراهيم بن المهدي وعيسى وغيرهما بالمدائن، وكان أبوالبط وسعيد بالنيل يراوحون القتال ويغادونه، وكان المطلب بن عبد اله بن مالك قد عاد من المدائن، فاعتل بأنه مريض، فأتى بغداد وجعل يدعوفي السر إلى المأمون، على أن منصور بن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه منصور بن المهدي، وخزيمة بن خازم، وغيرهما من القواد، وكتب المطلب إلى علي بن هشام وحميد أن يتقدمأن فينزل حميد نهر صرصر، وينزل علي النهروان.
فلما علم إبراهيم بن المهدي بذلك عاد عن المدائن نحوبغداد، فنزل زندورد منتصف صفر وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة يدعوهم، فاعتلوا عليه، فلما رأى ذلك بعث عيسى إليهم، فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما؛ وأما المطلب فمنعه مواليه وأصحابه، فنادى منادي إبراهيم: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره فنهبوهأن ونهبوا دور أهله، ولم يظفروا به، وذلك لثلاث عشرة بقيت من صفر، فلما بلغ حميداً وعلي بن هشام الخبر أخذ حميد المدائن ونزلهأن وقطع الجسر، وأقاموا بهأن وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به.

.ذكر قتل علي بن الحسن الهمداني:

في هذه السنة قتل علي بن الحسين الهمداني وأخوه أحمد وجماعة من أهل بيته، وكان متغلباً على الموصل.
وسبب قتله أنه خرج ومعه جماعة من قومه ومن الأزد، فلما نظر إلى رستاق نينوى والمرج قال: نعم البلاد لإنسان واحد! فقال بعض الأزد: فما نصنع نحن؟ قال: تلحقون بعمان؛ فانتشر الخبر.
ثم إن علياً اخذ رجلاً من الأزد يقال له عون بن جبلة، فبنى عليه حائطأن فمات فيه، وظهر خبره، فركبت الأزد، وعليهم السيد بن أنس، فاقتتلوأن واستنصر علي بن الحسين بخارجي يقال له مهدي بن علوان، فأتاه، فدخل البلد، وصلى بالناس، ودعا لنفسه، واشتدت الحرب، وكانت أخيراً على علي بن الحسين وأصحابه، فخرجوا عن البلد إلى الحديثة، فتبعهم الأزد إليهأن فقتلوا علياً وأخاه أحمد وجماعة من أهلهمأن وسار أخوهما محمد إلى بغداد، فنجا وعادت الأزد إلى الموصل، وغلب السيد عليها وخطب للمأمون وأطاعه.
الهمداني ها هنا نسبة إلى همدان بسكون الميم وبالدال المهملة، وهي قبيلة من اليمن.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل.
وفيها أيضاً زوج المأمون ابنته أم حبيب من علي بن موسى الرضي، وزوج ابنته أم الفضل من محمد بن علي الرضي بن موسى؛ وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر ودعا لأخيه، بعد المأمون، بولاية العهد، ومضى إلى اليمن، وكان حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان قد غلب على اليمن.
وفيها في ربيع الآخر ظهرت حمرة في السماء ليلة السبت رابع عشر ربيع الآخر، وبقيت إلى آخر الليل، وذهبت الحمرة، وبقي عمرودان أحمران إلى الصبح.
وفيها توفي أبومحمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي اليزيدي المقرئ صاحب أبي عمروبن العلاء، وإمنا قيل اليزيدي لأنه صحب يزيد بن منصور خال المهدي وكان يعلم ولده.
وفيها توفي سهل ذي الرياستين، بعد قتل ابنه بستة اشهر، وعاشت أمه حتى أدركت عرس بوران ابنة ابنها.

.حوادث سنة ثلاث ومائتين:

.ذكر موت علي بن موسى الرضي:

في هذه السنة مات علي بن موسى الرضي، عليه السلام؛ وكان سبب موته أنه أكل عنباً فأكثر منه، فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، وكان موته بمدينة طوس، فصلى المأمون عليه، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد.
وكان المأمون لما قدمها قد أقام عند قبر أبيه؛ وقيل إن المأمون سمه في عنب، وكان علي يحب العنب، وهذا عندي بعيد.
فلما توفي كتب المأمون إلى الحسن ين سهل يعلمه موت علي، وما دخل عليه من المصيبة بموته، وكتب إلى أهل بغداد، وبني العباس والموالي يعلمهم موته، وأنهم إمنا نقموا ببيعته، وقد مات، ويسألهم الدخول في طاعته، فكتبوا إليه أغلظ جواب.
وكان مولد علي بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة.